وعكة سايكولوجية

September 9, 2023, 1:33 am, By Almohannad Alnasser


post image

مرهَقَةٌ، مذعورةٌ وخائِفة تَستند فِي طَريق صحرَاوي عِلى ظلِ سرَاب لا يقيها حرّ الشّمس ولا يَسقِيها غَيثاً يَطفي غَليل يأسِها، ويزدَاد الحَر فتزداد احتِراقاً سَايكولوجياً، فِيما تَرزَح تحت حُكم أفكَارٍ سودَاء تُخيّم كَغِربَانٍ لِتحُجب زُرقة السَماء فَلا تَسمَع إلّا نعيقاً يَصُمُ أُذُنيهَا.

تَنتَفِضُ بحالةٍ عَصَبِيَة وشِجَارَاتٍ عَائِليّة مَعَ كُلِّ مَن حَولها، صارخة بزوجها وأطفالها وأصدِقائها وعائِلتها، فتَنتفَتحُ ذُكورة الرَجل لِيَرد على صراخها بِصراخ وشَتائم وقد يَنتَهي الأَمر بِقَمعٍ أو هجرٍ ليخرج مُحتجاً لوالِدَتها شَاكِياً "جُنون زَوجته" تِلك الجَاحِدة النَاكِرة لَلجَمِيل البَارِدَة العَواطِف، والمُتأثرة بِما تَقرأ عَلى "الانترنِت" مِن أفكارٍ لا تُسمِن ولا تغني من جوع. فتغضب الأمّ وتعتذر وتبرر أنها ربتها أحسن تربية، ولكن يا لهولِ صديقات السُوء خَرَابَات البِيوت العامرة وما تفعلن، وتطلب والدتها مِن نساءِ العَائِلة المُتوازِنة اجتِماعاً بِجلسَةٍ مُغلقة ويَخرجن بِقرار إِرسَال مبعوث سَلام شَديد الحِنكة، ومَن أفضل مِن العمّة أو الخَالة الحَكيمة؟ تلك التِي فَرضَتها ظروف عيشها ببحبُوحة ماديّة لِتصير المَرجِعية العُليا، بِخلاف بَقية العَائلة فهي تُساعِد المُحتاج ويأتي إليها المستدينين لِيُسبِحوا بِرفقِهَا، فزوجها كَمَا تَعلمون تَاجِرٌ مَرمُوق، كَمَا أنَّ لدِيها مَهَارَة فَرِيدَة فِي تَقديم أَطبَاقٍ سَاخِنَة مِن النَصائِح المُفرَّزَة مِن قَبلِ عَام الفِيل بقرنين ونصف، بعدَّ أن تضعها في مايكرويف صيني الصنع، فتبدو طازَجَة "تسرُ النَاظِرين".

"يا بنتي خليكي قوية، المرأة العاقِلَة هي اللي بتتحمل وبتضحي، بعدين شو بدو الرجال شوية دلع وغَنج ومِنَ الذي منُو وفهمك بكفاية وبتعمليه خاتم بإيدك، لك شو بدك أحلى من هيك عايشة آكلة شاربة نايمة، مو ناقصك شي" ثم تبدأ العمّة بإسقاط تجربتها الخَاصَة حِين تَزوجَت صَغيرة وكَان زَوجها فَقِير وكيفَ تَحمَلَت وجاهدت ونافَحت وناضَلت إلى أن وصلت إلى ما هي عليه الآن، متناسيةً أنَّ لِكل إنسان عَلى هَذا الكَوكب خصوصية فَريدة، وأنَّ الطاقات ليست واحِدة عند الجميع، وكذلك قدرات التحمل والعمليات الفكرية والموهبة والتكيّف والتأقلم، مُتناسيةً أيضَاً فارِقَ الأجيال الفَاصل بينها وبين من تُقَدِّمُ لها النصائح، بل هيَ لا تعلم أن سبب كل ذلك قد يكون بيولوجياً كنقص أحد هرمونات التوازن، السعادة، الحبُ، التهدئةُ (الدوبامين، السيروتونين، الأوكسيتوسين، الإندورفين) أو يكون صدمة غير محلولة من ماضٍ قريب أو بعيد Unresolved Trauma، أو اضطراب التأقلم مع واقعٍ جديد، أو اكتئاباً وراثياً، أو قلقاً أو عقدة اضطهاد أو حتى متلازمة الأنثى المُقرّعَة أو المعنَّفة Battered woman Syndrom.

تستدير العمة بزاوية قطرها مئة وثمانين درجة متجهة إلى الزوج الحزين، المعتكف في غرفة مجاورة لتعطيه ما تبقى من وجبتها الَدسِمة "وأنتِ كمان عَطِيها شَوية مَصَارِي تشترِي لَحالها فَستان جديد يغير نَفسيتها أو طَلعها مشوار هي والولاد عملوا مشاوي" وهي لا تعلم أنّ الذي تتحدّث إليه كان قد تعرض هو الآخر وفي ذات الوقت إلى اضطرابات ما أنزلَ الله بها من سلطانٍ فقبل أن يجأر بأول دمعة حُزن وقبل أن يقُول لهُ عبد الحليم حافظ: "لا لا لا لا" يَنهَض كل مَن فِي المَنزل قائِلاً "عيييييب الرجال ما بيبكي" وتَكبُر عمليات النفخ، التصليب، التحجير، التزليم، والتضخيم الذكورية من كلِّ حدبٍ وصوب وتتناسى العمّة كم مرّة عُوقِب هذا الرجل من معلميه بالفلقة وبمنتهى الإذلال أمام بقيّة التلاميذ وكم من مرةٍ أُهين من والديه أمام أطفال العائلة لأنه قام بتصرفٍ طفولي، كم مرة حُبِس وكم من مرة حُرم وكم وكم وكم بحجة التربية وبمبدأ "القسوة تصنع الرجال"، ثم خرج إلى المجتمع ليَجِدَه بكل أطيَافه يُعاني مِن "مُتلازِمة المجتمع المقهور" القائم على القمع واللاعدالة واللا توازي ويجد أن أصغر عنصر مخابرات يمكن أن يمسح بِكرامَته أرض كل مِرحاض دون أن يتجرأ على النطق بكلمة وَاحدة، كل تلك العوامل وغيرها الكثير مما لا يُعد ولا يُحصى أفقدتهُ القُدرة عَلى التَعاطُف والتوازُن، وظنَّ أن القسوة والعنف وتَحمُل الأَلم هِي مقاييس الرجولة، وأن تحطيم النفسيات وتكسير الرؤوس هي معايير القوة والخصوبة، لذا لا يدرك أيّ شخص ولا حتى العمّة الحكيمة أنه هو الآخر بِأمس الحاجة لأخصائي سلوك يساعده على تجاوز ذاك العبء الصخري المتربع فوقه، أو اقناعه أنهُ من الصعب أحياناً أن يتعامل الإنسان بمفرده مع قضاياه النفسية، خاصة تلك التي تتطاول بسلبية على حياتنا، وكأنها فوضى تحلّق بنا إلى عوالم سيئة، ولا أقترح هنا العلاج الدوائي، ولكن العلاج الإدراكي والسلوكي الذي يمكن أن يُقدِم الكثِير مِن الفَهم والدَعم العاطِفِي والتوجيه والتَشخيص ويساعد على استعادة التوازن. ولكن يبقى له أن يَهزَ بِرأسِه راضياً عن النصيحة ويشكر سعة صدر العمّة التي توازت حلولها مع موروثه الثقافي الذي تعلّمه أباً عن أمٍ عن جدٍ عن سلفٍ صالح.

تمسح المسكينة دموعها، تغسل وجهها، تتغندر، تشتري هديتها، تذهب إلى المشوار، وتأكل من المشاوي بدون شهية، ولكن لا غَسِيل الوَجهِ يَمسَحُ أفكَارَها، ولَا أَلوَانُ مِكيَاجِها تُحسِّن من سَودَاوِيَتِها، ولَا حتَى الهَدايا واللُعب والمشاويِر تخرس النعيق الآخذ بالارتفاع، مضخماً من الشَبح المُظلم، محولاً إيّاها إلى طَيفِ إِنسَانٍ، إلى وَهمٍ تائه، إلى كابوسٍ صَبَاحِي يَبحَث عَن غافٍ ليَسكنه، فكلُ من حولها لَم يَتمَكنُوا مِن فَهمِها وأَطلَقُوا عَليهَا، مُشاغبة ومُتعبة وعنيدة، والتعامل معك مستحيل، وليس هناك من أحدٍ يمكن أن يتحمل عقلك، ومجنونة ومعتوهة ومختلة وناشز، حتى تملكتها تلك الأفكار وثبتت في رأسها لتصير إلى معتقدٍ وإيمانٍ وقناعَة في أنها لا بدَّ ممسوسة ولا بدَّ أنها الخاطئة، أو أن ضرباً من ضروب جن يسكنها، فتستسلم مطلقة لروحها العنان راميةً بثقل همومها أمام غريب لا يعرفها ولا تعرفه وبلحظةٍ خاطفةٍ تحسُ بطمأنينة وسُكُون فتتحدث إليه عن كلِّ ما حبسته وكبتته وأثقلَّ كاهلها لعقود، تحكي عن أحلامها، أمالها، خيباتها، قلقها، معاناتها، وتبكي ثم تبكي وترفع عينيها لِتَلمح نظرة راضيّة تُطمئنها أنه لَم يُحاكِمها، بل حلقَّ بها إلى عَوالِم نَفسِها المَخفِّية نفسها الحقيقية لا تلك التي فُرضَت عليها ولم يضعها يوماً في قفص الاتهام، لأنّهُ مختص ويدرك تماماً الاحتياجات الإنسانية ويعرف كيف يداوي الوعكات السايكولوجية، وتستيقظ من مغامرتها تلك قائلة لطبيبها: كنت أعتقدُ يا سيدي أن لجوئي لأخصائي هو آخر الحلول وأسوأها، لأكتشف أن ما تحدثت به كان واجباً أن يكون أول وأفضل الحلول.

المهند الناصر

تورونتو ٢٠٢٣


التعليقات



أضف تعليق
الاسم
البريد الالكتروني
التعليق

© Copyright Maher Sarem 2024

Facebook Twitter LinkedIn instagram tiktok youtube