التطور، التكيّف، داروين، وحي بن يقظان
January 5, 2025, 5:45 pm, By Almohannad Alnasser

تناولت عدّة نظريّات موضوع التطور؛ فهناك نظريّة التطور Evolution Theory، وهناك نظريّة داروين في الاصطفاء الطبيعي Natural Selection، وهناك من عملَ على هذه النظريّة لتفسير التطور عن طريق التأقلم Adaptation، ولن أتحدَّث هنا سوى عن الموضوع الأخير وهو التطوّر عن طريق التأقلم والذي يعزو علماؤه وباحثوه Adaptationist كلّ تغيير يطرأ على أجساد الكائنات أو أعضاءها إلى التأقلم والتكيّف، كطول رقبة الزرافة على سبيل المثال الذي حدثَ لأنّها احتاجت أن تأكل من أعالي الشجر، أو الدبّ الأبيض الذي احتاج للونِ الأبيض من أجل مساعدته على الصيد في المحيط المتجمّد الشماليّ، وغير ذلك من النظريّات عن أشكال الكائنات وأجسادها وأعضاءها. وهو بالطبع موضوع جذّاب لأنّهُ غالباً ما يأخذ المخيلة في رحلة إلى عوالم القصص الخيّاليّة كحكايات ما قبل النوم Fairy tales، وهذا الموضوع ليس بالجديد على الإنسانيّة، ففي الفلسفات العربيّة بشكلٍ عام و عند العلماء العرب نجد أنّهم قد أبحروا في الموضوع، إذ نجد آثاراً لنظريّة التطور عند ابن خلدون والجاحظ وإخوان الصفا وغيرهم، ليمتد تأثير تلك الأفكار إلى الرواية العربيّة الأولى والتي تعتبر من باكورات الأعمال الروائية عند العرب والمعنونة بـ "حيُّ بن يقظان" والتي يحكي كتّابها الأربعة وهم ابن طفيل وابن سينا وابن النفيس والسهروردي كلٌ من وجهة نظره عن ولادة الإنسان من رحم الطبيعة أو في كهفٍ موصد، تخمّر به زبد البحر والهواء والأشنيّات والماء أي من صلصال المكونّات الكونيّة الأساسيّة، ثمّ تقوم الطبيعة مرةً أخرى بضمان بقاءه عن طريق ظبيةٍ ترضعه لأعوام سبع، وهنا نرى علاقة وثيقة بين المخلوقات لإتمام التطور وصراع البقاء، بعد هذا تموت الظبية فيستفيد الإنسان أو الطفل "حيّ بن يقظان" منها لاكتشاف المعرفة أو العقل عن طريق تشريحها في سبيل الوصول إلى معرفة سبب موتها ولعلَّ هذه المسألة الفلسفيّة من أعمق المسائل التي لم يستطع العلم أو الفلسفة الإجابة عنها بعد، ويتطوّر بعدَ ذلك الطفل ليصير شابّاً فيَصِل إلى معرفة النار وهي إحدى العناصر التي اعتبرها الإنسان لأطول وقتٍ من العناصر الأساسيّة في الطبيعة إلى جانب الهواء والماء والتراب، وما زالت إلى يومنا هذا داعياً للتأمل عند الكتّاب والشعراء منذ أسطورة بروميثيوس سارق النار إلى بيت بشار بن برد: " الأَرضُ مُظلِمَةٌ وَالنارُ مُشرِقَةٌ *** وَالنارُ مَعبودَةٌ مُذ كانَتِ النارُ"، ومن النار يطوف حيُّ بن يقظان في عوالم التأمل للمخلوقات الأرضيّة بشكلٍ عام، ثمّ يعرجُ منها إلى التأمل في الفضاء والكواكب والنجوم ليستشف منها التكوين الإنسانيّ والحساء الآدميّ المعجون من النفس والجسد والفارق بينهما، كلّ هذا جاء عن طريق التأقلّم مع بيئته المحيطة في الجزيرة النائية التي عاش بها. وقد حاكاها بعد عدّة قرون الغرب الأوروبيّ بقصّة "روبنسون كروزو"، وإن لم تأخذ قصة الأخير منحىً تطوريّاً إلّا إنّها تحدّثت عن تأقلم الإنسان مع الطبيعة والبيئة. وفي أدب الشعوب نجد عديداً من الأمثلة عن التأقلم والتطوّر كمثال على ذلك قصّة The princes of Nobody أميرة اللاأحد، وعددٌ آخر من الكتب التي رأت أنّ نظريّة التطور ليست إبداعاً من ابداعات القرن التاسع عشر، ولكنّها إعادة تدويرٍ لما تراكم من فولوكلور وقصصٍ وأساطير عند الشعوب عبر العصور وخاصة علاقة الحيوانات مع بعضها وعلاقتها مع الطبيعة وعلاقة الإنسان معها جميعاً. لعلّ كلّ ما سبق يؤدي بنا إلى نتيجةٍ تجعل من استنتاجي منطقيّاً وهو أنّ التأقلم بجوهره موضوعٌ جذّابٌ بسبب ما يفسح من مجالاتٍ عريضةٍ للمخيّلة أن تفسّر كلّ شيءٍ تفسيراتٍ خيالية قد لا تعتمد المنهجيّة العلميّة أساساً لها كقول أحد العلماء أنّ تطوّر العقل جاء بسبب تعاطي القرود العليا للفطر المخدر stoned ape theory. ويتناسى علماء التكيّف أو التأقلم العوامل الأخرى التي تعمل يداً بيد لوصول الكائن إلى شكله الحاليّ كالتهجين Hybridization و الطفرات Mutation و الانحراف الجينيّ Gene Drift والعمليّات التطوريّة العشوائيّة (الارتباط التطوريّ والوظيفيّ Integration والعقد التطوريّة Modularity)، التدفّق الجينيّ، وPlasticity وهي عندما لا يطرأ تغيير مباشر على المستوى الجينيّ Genotype، أو التأقلم القصير المدى الذي لا يؤثر على التركيبة الجينيّة للكائن الحيّ، وكذا التأقلم السلوكيّ، والتأقلم الجسديّ Phylotypic وكذا التأثير الاجتماعيّ Cultural Effect. فموضوع التطور أكبر وأعقد بكثيرٍ من مجرّد ما عرضه داروين باصطفائه الطبيعي، أوما يعرضه العلماء التكيّفيّون Adaptationist في نظريّاتهم، وربما من يطّلع على النظريّة بشكلها الأولي لا يغوص عميقاً فيما طرأ عليها من تغيرات عميقة واكتشافات غيّرت الكثير مما جاء به داروين خاصة بعد اكتشاف الشيفرة الوراثية DNA وGenome Sequencing لمعظم الكائنات حتى المنقرضة منها، وهكذا يتحتمُ عليَّ أن أنهي حديثي بما كان علماء العرب المسلمين ينهون به مقالاتهم وكتبهم وأبحاثهم بكلمتي "والله أعلم".
المراجع:
حي بن يقظان النصوص الأربعة ومبدعوها تقديم وتحقيق يوسف زيدان، دار الأمين. Malik, A. H., Ziermann, J. M., & Diogo, R. (2018). An untold story in biology: the historical continuity of evolutionary ideas of Muslim scholars from the 8th century to Darwin’s time. Journal of Biological Education, 52(1), 3–17. Darwin, C. (1859). On the Origin of Species by Means of Natural Selection. London: John Murray. Gould, S. J. (1978). Sociobiology: the art of storytelling. New Scientist, 80(1129), 530-533. Gould, S. J., & Lewontin, R. C. (1979). The Spandrels of San Marco and the Panglossian Paradigm: A Critique of the Adaptationist Programme. Proceedings of the Royal Society of London. Series B, Biological Sciences, 205(1161), 581–598. Harvati, K., & Ackermann, R. R. (2022). Merging morphological and genetic evidence to assess hybridization in Western Eurasian late Pleistocene hominins. Nature Ecology & Evolution, 6(10), 1573–1585. Moczek, A. P. (2015). Developmental plasticity and evolution--quo vadis? Heredity, 115(4), 302–305. Wagner, G. P., & Zhang, J. (2011). The pleiotropic structure of the genotype–phenotype map: the evolvability of complex organisms. Nature Reviews. Genetics, 12(3), 204–213. West-Eberhard, M. J. (2003). Developmental plasticity and evolution (1st ed.). Oxford University Press.