أمومة بيولوجية أم عائلة مؤسساتية

September 8, 2023, 2:48 am, By Almohannad Alnasser


post image

يقول نزار قباني:

أشيلك يا ولدي، فوق ظهري

كمِئذَنَة كُسرت قطعتين

لو كان للسان حال "جيرا" Jera أن ينطق، لأقسمت بما جاء في شعر نزار، غيرَّ أنَّ تَركيبتها الحَيويَة أعجزَتها عَن الجِناس والتَنمِيق واكتفَت بترصيعِ دمعةٍ من وهجِ عواطفٍ اتَقَدَت لا بِفعلٍ هِرموني كما يَحلو لِبعضهم أن يُسميه، ولا لِسببٍ نَفسي كما يُريدُ آخرون له أن يَكون، ولكِن لظرُوف فَرضَتها بِيئَةٌ وبِناء اجتماعي يتغلب فيهما التطبُّع على الطبيعة.

"جيرا" وضعت اصبعها مُبلسمةً لامِسَةً جبينِ طفلتها "جوكورو" Jokoro ذات العامين والنصف فتتأكد من حشاش كَبِد الأم أنها تُصارِعُ حُمّى تغلِبُ جهازها المناعي البسيط وتتطلب رعايَةً واهتماماً، عَرضت عليها تِريَاقاً من حِليبها دون أن تعلّم ما يمكن أن يقدمه حليب أمٍّ رؤوم من مضاداتٍ حيوية، فهي لم تشغل نَفسَها يَومَاً بِقراءَة مَجَلّةٍ علميّة، ولم تَتعلم في المدرسة الغربية التي تتغنى بفرضيّات "الطفل الفاتن" Cute Baby ونظرية "الالتصاق الأمومي" Attachment theory التي استعبدت النساء في مذبح الرابطة الأمومية فاستَهلكن أنفسهُنَّ في سبيل أن يَنغمس الرضيع بحنان افتراضي ويغرق بعاطفة مزعومة، فيُحمَل إذا بَكى ويُهدهَد إذا اشتكى ويتَساوى مع "أخيه وأمّهِ وأبيه وصاحِبَته وبَنِيه" فِي الحُقوقِ بدونِ واجبات بِحسب ما أدلَجتهُ جَمعِيات نِصف عِلمية ومَواقِع اِجتماعِية غثّة، وأنصافُ مختَصين وأربَاعُ فُقهاءٍ تراءى لهم أن الطفل إذا لم يُعامَل بِتلك الطَريقة فسينمسخ إلى مجرمٍ معزول أو قاتل متسلسل عديم العاطفة وغير متكيّف اجتماعِياً مُهدَدين دوماً بِسلاح سحبِ الأطفال إلى مراكز الرعاية فيما لو أخلَّ أحد الأبوين بآداب التواصل الهرموني مع الطفل. وعلى هذا وحين لم تجِد "جيرا" في طفلتها رغبةً في الأكل أو الرضاعة، سَرحتها كعروسٍ من الزنجِِ بدون قلادةٍ مِن جُمَان ثم وضعتها على ظهرِها، وكأنها أمٌ من أُمهَات مَدينة "بيلفيد" Bielefeld الألمانية التي يُعاني ثُلثَي أطفالِها من رابِطة أمُومِية سَيئة حسب المعايير "اليوروأمريكية" ففي الحين الذي تحمل فيه الأمهات أطفالهن يتابعن حياتهن واجتماعاتهن بشكل طبيعي دون إيلاءِ رعاية مفرطة أو انتباه شديد لهم، وعلى الرغم من المزاعِم التي تشير إلى تجريم هذه الطريقة في التربية فقد نشأت أجيالٌ وأجيال من الفِرنجَة الألمان المُتَمتِعين بِصحَةٍ نَفسِيةٍ جَيّدة وعَلاقاتٍ اجتماعيةٍ ناجِحة.

حَاولّ أفراد العائلة والمقربون بل وحتى الجيران الالتفاف حول الأم وطفلتها واقتربت شقيقتها لمداعبتها وهزّتها ودعَتهَا إلى اللّعبِ بأغصانِ الشَجر لُعبتها المفضلة دونَ جدوى "فجوكورو" باتت في حالة يرثى لها وتتدهور صحتها يوماً بعدَّ يوم ولكن هذا لم يزد الأم إلّا إصراراً على متابعة دورها في العناية بها وحملها أينما حلّت وارتَحلت، فالرَابِط ما بينهما لا يقتصر على إفراز هرمون الأوكسيتوسين Oxytocin ، ولا على البروجيسترون Progesterone ، ولا حتى على الاستروجين Estrogen والبرولاكتين Prolactin وإنما يتعداه إلى عُرفٍ اجتماعي ومِيثاقٍ يَفوق بأخلاقيَاته ما عَرفناه عن النمُوذج الأمريكي والغَربي والألمَاني والعَربي والافريقِي فالصلات الأمُّومية تَطورّت عِند جَميع الثَديات كعادة اجتماعية وبنموذجٍ ثقافي ناشئ عن حاجة الرضيع إلى الرعاية والاهتمام فكانَ لزاماً أن يتدّخل التطور من أجل بناء الرابطة الأسرية كجوُقَةٍ اجتماعية، جوقةٍ بأغانٍ متعددة وبلغاتٍ مختلفة تنسجُ العَديد من اللهجات الرقيقة والمدهشة فيما تسهم كلها بإنشاء كائنٍ مرغوب ومقبول من الناحيتين النفسيّة والاجتِمَاعيّة.

لم أقدر على حَبسِ عبراتي عندما لمحتُ "جوكورو" الصغيرة تترنح تحت وطأةِ سكراتِ الموتِ، جميع من حولها أدركوا بأنها رحلَت ما عدا والدتها التي آمنت بأن روح طِفلتها مَا زالت بِحاجة للحَمل حتَى وإِن غادرت جَسدها الوَاهِن، وضعتها على ظهرها كما لو أنها حيّةٌ ترزق وجالَت دَمعَتا حُزنٍ فِي عينيها تفضحان التصاقها برضيعتها، ومَرَت أيّام وليّالٍ وأسابِيع تَفسخت معها الجَثة ونَالت رائحةُ التحلل العضوي من حدود القرية، فيما العائلة والأصدقاء والجيران والمقربون يراقبون بصمتٍ راضٍ ودون تذمر حزن الأمِ المفجُوعة فيغدوا المصاب جماعياً ويُظهِر الجَميع احتراماً عَظيماً وتقديراً لرغبات الأم في إبقاء طفلتها متشبثة بها حتى بعد أن استحالت إلى هيكلٍ عظمي لم يَبقَ مِنه سوى رَميم لم يتمتع برفاهيّة الدفن كأطفال الجنس البشري، لأنها ببساطة طفلة "شمبانزي" Chimpanzee، ولَم يُلقِ أبناء الجلدة الواحِدة لوماً على الوالدةِ الشابة، ولم تُتَهَم بِقلة العِناية وبالفطرة غير السَلِيمة ولم يُثقَل كاهِلها بِدُروسِ الأمُومَة الرنَانَة وتُرهَات المُصطَلحَاتِ المُجحِفة والمُنحَازة للنَمُوذَج "اليوروأمريكي" الذي يضع كلَّ أمٍّ تحت وطأة الإحساسِ المُستَمِر بِالذَنب والتَقصير وبدلاً من كلِ ذلك حملوا في عيونهم رسالةً تقول: لروح "جوكورا" السلام.

المراجع:

Different Faces of Attachment: Hiltrud Otto and Heidi Keller

Dead infant carrying by chimpanzee mothers

STATE OF THE SCIENCE OF MATERNAL-INFANT BONDING: A PRINCIPLE-BASED CONCEPT ANALYSIS

The Mother-Infant Nexus in Anthropology: Small Beginnings, Significant Outcomes

نزار قباني الأعمال الكاملة طبعة بيروت ١٩٦٨


التعليقات



أضف تعليق
الاسم
البريد الالكتروني
التعليق

© Copyright Maher Sarem 2024

Facebook Twitter LinkedIn instagram tiktok youtube