الرموز النفسيّة واللغة السينمائية في فيلم "بحيرة النار"

January 24, 2025, 1:36 pm, By Almohannad Alnasser


post image إما أبيض أو أسود، ما من رماديٍّ بينهما. هذا ما أراد المخرج "توني كاي" أن يخبرنا به حين قام بتصوير فيلمه "بحيرة النار" Lake of Fire والذي استغرق إنتاجه ستة عشر عاماً (١٩٩٠ – ٢٠٠٦).
تعمّد المخرج تصوير الفيلم بالأبيض والأسود، وهذا الخيار في التصوير السينمائي يرمز نفسيّاً للطبيعة الحادّة للجدل المحتدم حول موضوع الإجهاض، و يمثّل بصريّاً الآراء المتعارضة بين مؤيدٍ لخيار الإجهاض ومؤيدٍ للحياة، تماماً كرمزيّة الموت والحياة ورمزية اليين واليانغ والخير والشر، كذلك يوضّح الفيلم التعقيد والدقّة للموضوع خارج هاتين الثنائيتين، مستشهداً بالصور الدينيّة على سبيل المثال إذ تبرز طوال الفيلم الخطابات الدينيّة والتي تدعم القناعات النفسيّة والأخلاقيّة العميقة لمواقف الأفراد بشأن الإجهاض.
ترمز الصلبان والكنائس والتجمعات الدينيّة إلى السلطة الروحيّة التي تؤثّر على أدقّ معتقدات الإنسان حتّى الشخصيّة منها، ومن هنا جاء العنوان "بحيرة النار" وهو رمز كتابيٌّ وإشارةٌ إلى الجحيم أو جهنّم العقوبة الإلهيّة لمن يخالف تعاليم الدين. والعنوان أيضاً يمثّل رمزاً نفسيّاً يعكس الاضطراب العاطفيّ والأخلاقيّ الشديد المحيط بالقضيّة، إذ تمثّل النار كلّاً من الدمار والتطهير ممّا يبرز العواقب الشديدة والطبيعة التحوّليَّة للجدل، لذا يبدأ المخرج الفيلم بمشاهد لنار الشموع المضاءة في الكنائس عن طريق لقطاتٍ قريبةٍ جداً لها، تماماً كالمشاهد القريبة للوجوه "Extreme Close Ups" المستخدمة في المقابلات داخل الفيلم، والتي أراد منها المخرج التقاط المشاعر الخام للأشخاص دون أيّ تأثيرٍ للمحيط فيظهر الغضب و الحزن و العزم وغيرها من المشاعر التي تشكّل الأسس النفسيّة للجدل وتضفي طابعاً إنسانيّاً للقضيّة، و هذا يؤكد أنّها ليست مجرّد معركةٍ سياسيّةٍ أو أيديولوجيّةٍ بل هي قضيّةٌ شخصيّةٌ بعمق، قضيّةٌ فيها قطبان متضاربان تحركهما العواطف، أما الأشخاص الموضوعيّون فقد استخدم المخرج في تصويرهم ما يسمى بلقطةٍ متوسطة البعد أو طويلة البعد Medium Shot and Long shots كمقابلات "نوم تشومسكي"، أي إنّ المخرج استخدم اللغة السينمائيّة واستغل زوايا الكاميرا إلى أبعد حدٍّ ممكن، حتّى عندما قام بتصوير مقابلاتٍ في بدايات الفيلم مع نساءٍ مقبلاتٍ على إجراء عمليّة الإجهاض اختار تصوير رؤوسهنّ من الخلف، لا حفاظاً على خصوصيّتهنّ فقط كما هو متعارفٌ في مقابلات الأفلام الوثائقية ولكن لما تحمله تلك الزواية من رمزيّةٍ نفسيّةٍ عميقةٍ، إذ تعبّر عن العزلة الاجتماعيّة لأولئك النساء، كما تثير مشاهد مؤخّرة الرأس شعوراً بالتأمل أو التفكير العميق في قرارٍ ناتجٍ عن تحكيم العقل لا العواطف، وهو تماماً ما أراده: أن يُظهر الفتيات في حالة شخصيّةٍ معزولةٍ وعميقةٍ من التفكير، ويعزل المشاعر الشخصيّة عن الجمهور و يغّيب النزاعات الداخليّة المتضمّنة في عمليّة اتخاذ القرار فلا يتأثر المشاهد وبالتالي لا يكوِّن فكرةً مسبقةً عن القضيّة سواءً بالتعاطف الكامل معها أو النكران الكامل لها.
لمؤخّرة الرأس أيضاً رمزيّاتٌ سينمائيّةٌ ونفسيّةٌ أخرى، فهي تلمّح إلى الضعف لأنّ هذا الجزء من جسم الإنسان يعدّ من الأجزاء الضعيفة، وفيها تلميحٌ أيضاً إلى الضعف العاطفيّ والنفسيّ للفتيات فيسلّط الضوء على هشاشة وضعهنّ وثقل قرارهنّ. من ناحيّةٍ أخرى، يقع في مؤخّرة الرأس القسم المسؤول في الدماغ عن عمليّة الإبصار أو ترجمة الرؤية، وتلك بحدّ ذاتها رمزيّةٌ في مخاطبة العقل بشكلٍ مباشرٍ دون استخدام العيون والملامح التي غالباً ما تثير الأحاسيس والعواطف، ليحافظ الفيلم بذلك على موضوعيّته ويسمح للمشاهدين بالتفاعل مع المحتوى دون التأثر بملامح الوجه ومعالمه من حزنٍ أو أسىً أو فرحٍ أو بكاءٍ أو غيرها، ويحفّز التركيز على الآثار الأوسع للسرديّات بدلاً من تحكيم العاطفة.
مع نهاية الفيلم يأخذنا المخرج في رحلةٍ طويلةٍ برفقة فتاةٍ تستعد للقيام بعمليّة إجهاض وهي في شهرها الثاني، ويصوّر قصتها بأدقّ التفاصيل مستخدمّاً هذه المرة وجهها وملامحها في مشاهد ولقطاتٍ قريبةٍ "extreme close up" ويتعرّف المشاهد حتّى على تفاصيل حياتها مع حبيبها القديم وحبيبها الحالي فيرتبط بشكل كامل معها ومع تاريخها وحتى مع مشاعرها و تقلباتها و آلامها، ويذهب المخرج إلى ما هو أبعد من ذلك فيدخل الكاميرا معها إلى غرفة العمليّات ويصور عمليّة الإجهاض كاملةً! وهو بهذا يربطنا جميعاً بعلاقةٍ شخصيّةٍ مع الفتاة من جهة، ومع محيطها من أطباء وممرضاتٍ و كذلك مع العيادة الطبيّة التي تجهض بها، فنتابع "دافع الموت" و"دافع الحياة"، فصورة الجراحة هي تجسيدٌ للتوتر بين هذين الدافعين، فإنهاء حياةٍ محتملةٍ يمثِّل "دافع الموت" والحفاظ على حياة واستقلاليّة المرأة يمثِّل "دافع الحياة"، و عمليّة الإجهاض ذاتها تشكل رمزيّةً خصائيّةً حسب فرويد كالفقدان والتضحيّة، وهذا يفسر مشاعر الذنب والقلق والتوتّر وفقدان القوة في المشهد العاطفي الذي تلى العمليّة، فتخبرنا الفتاة أنّها متعبةٌ ومحبطةٌ ونشاهد دموعها التي تحيّرنا، هل هي دموع الندم أم الحزن أم الفراق، ثم تقول: "أريد فقط أن أذهب إلى منزلي" I just want to go home، لينتهي الفيلم بالمشهد الذي تمشي فيه مع حبيبها خارجين من العيادة واضعةً رأسها على كتفه بشعرها الأشقر الذي يظهر أبيضاً بسبب التصوير وشعر صديقها الأسود، وكأنّه يذكرنا مرةً أخيرة أنَّ الموضوع أبيض أو أسود، كما إنّه يدلّنا بطريقةٍ رمزيّةٍ إلى الوحدة المحتملة بين القطبين وإمكانيّة التواصل والتقريب بين وجهات النظر المختلفة، حيث تمثّل المرأة الطرف الأبيض والرجل الطرف الأسود، و كأنّ تلك الصورة تخبرنا أنّه رغم من قطبية الموضوع إلّا إنّ هناك مجالاً للتفاهم والتعاون، ويعلّمنا أخيراً عن طريق تصوير مؤخرة رأسيهما أنّ الجدل لا يتعلق فقط بهذين الشخصين و أنَّ القصة ليست قصتهما وحدهما ولكنّها قضيّة مجتمعاتٍ كثيرةٍ، وتطرح أسئلةً اجتماعيّةً وأخلاقيّةً واسعةً على نطاق البشريّة جمعاء.

التعليقات



أضف تعليق
الاسم
البريد الالكتروني
التعليق

© Copyright Maher Sarem 2025

Facebook Twitter LinkedIn instagram tiktok youtube