الرسالة السادسة في علم الإنسان: الروحانيات البدائية

September 19, 2023, 2:23 pm, By Almohannad Alnasser


post image

"ماذا يجب أن يكون كي تكون إنساناً"؟

اجتمع حشدٌ صغير من المقربين حول جثة الفقيد الذي كان لزاماً عليّ حضور مراسم عزائه لصلة قرابة تربطني به. و في تلك القرية المنفيّة خارج حدود الذاكرة الآدمية، وبطقوس أكثر غرابة من طقوس الصلب الوردي، بدأت مراسم التأبين الأخيرة باكراً في الصباح، واتجهنا إلى باب المدفن الصغير الذي بدا قزماً مقارنةً بتاج محل أو ضريح الإمبراطور الصيني كين، لم يكن المدفن إلا سرداباً منسوجاً من ظلام لا يمكن أن تميز خلاله شيئاً، معتماً تضيع فيه إذا ما غطى وجهك شعرٌ أسود طويل لفتاة غرناطية، مشينا تائهين في عتمة المكان إلى أن تقدم أحد المشيعين الأربعة مشعلاً عيدان نارٍ صغيرة موزعاً إياها على طول الممشى كأنها بخور سومطري لتكون مرشدنا في هاوية العجائب تلك، دالفين إلى مَملَكةِ الأَموات حتى نَصل إِلى مُنتصَفِ السِرداب ليضِيقَ المَكان و يُصبِح نفقاً يسمى بـ "زحف الرجل الخارق" Superman’s Crawl بالكاد يتسع لجسدٍ هزيل، نزحف فيه على بطوننا ساحبين الفقيد بصعوبة لِنَخرج بَعدَ مُعاناة مديدة إلى غرفةٍ بدا ظلامها أكثر حلكة من سواد عيون شركسية، ظلام يلتحم مع كل شيء وكأنه عدمٌ كوني يتشكل من المادة المظلمة. يضيء لنا بروميثيوس المَقبرة بشعلة صغيرة بالكاد تنير النفق، لنجد أنفسنا واقفين عند فوهة أشبه بثقبٍ ضيق لا يمكن أن يمر به كلبٌ جائع وهي ظهر التنين Dragon’s Back، وبصمتٍ وإصرار بدأ المشيعون بالهبوط إلى الدرك الأسفل لمنتصف مقبرة الليل التي بدت لي أزليّة، فيما يتناول الرجال جثة الميت كي لا تنزلق منهم داخل ثقبٍ دُودِي فَنَضيع جَميعاً في عوالمٍ أخرى، مستشعرين قلة الأكسجين والعرق البارد يتصبب من أجسادنا لنصل إلى الحجرة الأخيرة المسماة بغرفة الدفن Dinaledi Chamber  لنقف هناك في حضرة آلهة الموت، متحدين مع صمت مملكة أهل الكهف، ليبدأ الأقارب بتجريف الأرض بالحجارة والأيدي وتتشكل حفرة بيضوية وضع الفقيد فيها، وقبل البدء بدفنه تقدم رجل يبدو أنه من رجال الدين واضعاً بيد المتوفى حجراً مصقولاً على شكل سكين ولم يمكنني تفسير ذلك الفعل إلّا بأنهم ارتأوا أن تلك الأداة يجب أن تنتقل مع الميت إلى العالم الآخر، ثم أشعلت نار لتضيء جدران الحلزون الكوني الذي تزين بنتوءات قرمزية ونقوش تحمل أسماء من دُفنوا هناك، كان كلٌ منا يتلو صلاة خاشعة فيما تعجز شفاهنا عن الحركة لهيبة المكان الأسطوري، لنعود أخيراً أدراجنا منكفئين في الطريق نفسها التي بدت الآن أكثر صعوبة وإيلاماً وغموضاً؛ كانت شعل النار البخورية قد انطفأت والظلام بات كثيفاً فزاد من الضغط والرهبة والإرهاق لنلمح ضوءاً صغيراً ينعكس على باب المقبرة وكأنه يدخل من ثقب باب الجنة ويتسع الضوء كلما اقتربنا منه حتى أعمى عيوننا مع لحظة خروجنا من الظلماء إلى النور وكأن حياة جديدة قد منحت لكل واحد منا. نتنفس هواء العصر الإفريقي فيما عيوننا تحاول التأقلم مع النور في أول تجربة روحية تنزلق بين الحزن والفرح بين الحب والألم بين الموت والحياة، هناك حيث عشت مع أحد أسلافي البشريين "الهومو ناليدي" Homo Naledi الذي أخذني إليها البيليوأنثروبولجيست ليي بيرجير Lee Berger paleoanthropologist الذي اكتشف هذا النوع من الأسلاف البشرية المنقرضة والذين عاشوا في جنوب أفريقيا بين مئتين وخمسين إلى ثلاثمئة ألف عام، ودفنوا موتاهم بتلك الرحلة التي وصفتها، في فيلم منصة نيتفليكس Netflex الجديد، المسمى بـ (المجهول: كهف العظام) Unknown Cave of Bones يجدر الذكر أن "Berger" بهذا الاكتشاف قد غيّر النظرة الأنثروبولوجية لما كان شائعاً بأن أقدم القبور موجود في منطقة بلاد الشام ويعود تاريخها إلى البيليوثيك المتوسطة Middle Paleolithic مئة وعشرين ألف سنة، ليصير قبر الناليدي Naledi أقدم من كلِّ ما هو مكتشف و يرجع إلى مئة وخمسين ألف عام قبل ذلك. ربما لم يتمتع أولئك الأسلاف بدماغٍ مكتمل، وربما اختلفت أشكال أطرافهم من اليدين والقدمين لتكون أطول وأكبر فتساعدهم على المشي لمسافات طويلة وتسلق الصخور والأشجار، وربما لو رأيناهم اليوم لظننا أنهم كائناتٌ فضائية، ولكن لا يمكن أن ننكر أنهم امتلكوا تفكيراً قادهم إلى دفن أحبابهم وإلى رفض مشاهدتهم يتحللون متفسخين أمام أعينهم أو تأكل جثثهم النسور والضواري، فابتدعوا رحلة شاقة ليدفنوا موتاهم بكرامةٍ في حجرة داخل جوف جبل لا يمكن الوصول إليها إلا بشق الأنفس ولا يمكن الخروج منها إلّا مستشعراً نبض حياة جديدة قد بُثَّت فيك، وكأنهم بذلك قدموا طقساً روحانياً ساعدهم على تحمّل لوعة فراق من يحبون، وهنا يأتي سؤالي هل كان للروحانيات دور في التطور البشري؟ هذا سيكون موضوع الدراسة القادمة في رسائل الأنثروبولوجيا بعنوان "الروحانيات والتطور".

المراجع:

Unknown: Cave of Bones. Netflix Canada.

The hand of Homo naledi
https://www.nature.com/articles/ncomms9431

Homo naledi, a new species of the genus Homo from the Dinaledi Chamber, South Africa
https://elifesciences.org/articles/9560

The thigh and leg of Homo naledi
https://www.sciencedirect.com/science/article/abs/pii/S0047248416301245


التعليقات



أضف تعليق
الاسم
البريد الالكتروني
التعليق

© Copyright Maher Sarem 2024

Facebook Twitter LinkedIn instagram tiktok youtube