أَحاسِيس اجتِماعِيَة أم إِحسَاس بَيُولُوجِي؟
September 8, 2023, 12:33 am, By Almohannad Alnasser
على طَريقٍ فَرعِي يَنزلِق عِند حَافَة تَلٍ مُرتَفع وفِي يَومٍ مُشمِس مِن أيَّام مَدينَة "بَالُو آَلتُو" Palo Alto الأمرِيكيَة، وقفَ السَيّد "رينتو" مُتطَاولاً بِرقَبَتِه نَحوَ السَمَاء، مُجهِشاً بِعواء ذِئبِي يَكادُ يَقتَلِعُ حُنجرته، كَعمَلَّسٍ* ينتَحِبُ اكتمَال قَمَرٍ أَشقَر، وتَستَمرُ نَوبَة العِواء الهِيستِيريَة فَتَبرُق مَشاعِرَهُ مُدرِكَاً لِأولِ مَرةٍ مَعنَى كَلِمَة "Liget" بِلُغةِ قبيلة "الإيلونجوت" llongot التِي تَختَفي فِي غَابةٍ مُمطِرة مِن غَابَات "الفِيليبين". والتِي كانَ سُكانُها حتَى وقتٍ قَريب يُعَبِرونَ عَن حُزنِهم العَميق بِتلكَ الكلِمة الخُماسية الأَحرُف فيما يُعبِرون عن مَزيجِها من الغَضبِ الأسيِّ بقطع الرؤوس، هذا الفعل ليس نكتةٌ سَمِجَة، بَل حَقِيقَة واقِعَة فَعملِية صَيد رُؤوس أَعدائِهم في حالات الحُزن الشَديد التي تترافق غالباً بِغَضَبٍ عارِم أَمرٌ لَا غِنى عَنه فِي مُجتَمَعِهِم، فكما تُعبِّر مُجتَمعَات أُخرَى عَن الأَسى بِالبُكاء، العَويل، شَق الثَوبِ، أو حتَى شدِّ الشَعر، يُعبِر "الإيلوجونت" عَن حُزنِهم بِفصلِ رُؤُوس مُناوِئِيهِم مِنَ القَبائِل المُجاوِرَة.
كلمة "لِيجيت" Liget بِحد ذَاتِها أرّقَت السيّد "رِينتُو" لِسنِين طوِيلَه مُحَاوِلاً فَهم فحوَاهَا، أو الأَحاسِيس التِي تَنبُع مِنهَا فقد كانَ يَعتَقِد أنَّ مَشَاعِر الحُزن واحِدة عِندَ جَمِيع البَشَر بأطيَافٍ مُتفَاوِتَة، وأنَّ هذِه المَشاعِر المُشتركة قادِمَة مِن عَوامِل جِسمَانِية "بيوُلوجِيَة" كما افتَرضَ "تشارلز داروين"*، الذي تَراءَى لهُ بأنَّ هُناك سَبعَة رُدُود فِعل مُشتَركَة عِند البَشر مُعتَمِداً فِي نَظريَته تِلك عَلَى القَسمَاتِ التِي تَرتَسِم فَوقَ الوُجوه فِي حَالاتِ الخَوف، الاشمِئزاز، الغَضَب، السَعَادة، الحُزنْ، والدَهشَة، مُتنَاسِياً أو نَاسِياً أَن تِلك المَلامِح تَبقَى مُعتَمِدة بِدَرجَة أسَاسِية عَلى أَربَعين عَضلَة تَحمِلها وجُوهنا (كَم رَأينا مِن نَحيبٍ بلا دُمَوع)، وبِالتَالي تَكُون تِلكَ العَضَلات بِتقَلُصاتِها قاصِرَة وعَاجِزة عَن تَفسِير مَا يَعتَمِل دَاخِل النَفس البَشريَة، فإِذا نَظرنا بِعُمقٍ أَكبَر إِلى المَوضُوع سَنستَنتِج أنّ تِلك المَشاعِر تَأتِي مُكتَسبة مِن البَيئَة والثَقافَة والعَادَات الاجتِمَاعِية، فَفي قَبيلة "الإيلونجوت" تَتَدفق تِلك الأحاسِيس دَافعةً بِأفرَادها لينخَرِطُوا بِتصرف غَريب عَن البَقيَة البَشرِية، فَما نَعتَبره نَحنُ وَحشياً يَبدُو لَهم أَمرَاً طَبِيعِياً وهَذا يَعنِي بِالضَرورة أنّ الأَحاسِيس تتأثَر بِخصُوصِية كُل مُجتمعٍ وتَقالِيده، فقبَائِل "الإنويت" Inuit من السكان الأصليين مثلاً يُعلِّمُون أطفَالَهم أن يَتَحكَموا بِغضَبِهم عَن طرِيق سَردِ القِصَص، وهذِه إِشكالية تُدخِلنا فِي مَتاهة الشَك، لِنسأل تُرى هل يُعَلِّم "الإنويت" أَطفَالَهم كَيفية التَحكُم بالغَضب؟ أم أنَّهم يُعلِمونهم كيف يُحولُون مَشاعِرهُم إِلى نَوعٍ مِن الشَفَقة والرَحمَة وهَكَذا يَغدُو فَهمنا للغضب مُختلِفاً عَن فَهمِهم لهُ.
إذا رَجِعنا إِلى السَيد "رينتو" فإنه وبِلَحظة تَوَحُدٍ جَارِحة مِن الأَسى العَمِيق استَشعَرَ تيَاراً عَنِيفاً مِن الكَهرُباء يَدخل جَسده دافِعاً به إلى العواء كذِئب وَحشِي عَلى الطَريِق العَام، ولو كانَ لأحدنا أن يُصَادِفه فِي تِلك اللحظَة فَلابدّ أن نَحكُم بِجنُونِه ولن نُعير اهتِماماً إلى أنه قَد غَمَرَ نفسهُ في عالم العوَاطِف لدى "الإيلونجوت" مستوعِبَاً أهَمِية صَيد الرُؤوس بِالنسبة لَهُم بعدَ أن عاشَ بينَهُم لِسنَواتٍ عديدة أدّت فِي النِهاية إِلى فَهم أن "الليجيت" هي مَزيجُ الحُزن والغَضَب الذي يَنتَابَهم حِين يَسمَعون صَوت عَزيزٍ مَفقُود، مُستَنتِجاً أنَّ أقرَبْ المَعانِي لِهذه الكَلِمة هُو "تَيَار تَوتُر مُرتَفِع".
"فُولطا قويّة" أَدَت بِه إلى حَفلَة عُواء مَسعُور على الطَرِيق العَام، جاء بعدَّ طُقوسِ قُداسٍ جَنَائِزِي وَدّعّ فِيهِ رفيقةَ دَربِه "شِيلي" التِي رَافَقتهُ فِي جَمِيع رحلَاته لِدراسَةِ المُجتَمَعَات البِدائِيَة فِي "الفيليبين" إلى أن أَلقَتها كَفُ القَدَر لِتَسقُط كَنَجمَةٍ مِن طَرفِ هَاوية كَونِيَة بِارتِفاع خَمسَة وستِين قَدَماً وتَقتُلها صِلادُ الصُخورٍ التي لَطَالَما انتَشَت حِين شَعَرَت بِلمساتِ تِلكَ الحَسنَاء وهِيَ تَتَسَلقها. وهكذا نَرى أنَّ الثَقافَة الاجتِماعِيَة هِي أهم العَوَامل التِي تُؤثِر فِي مَشاعِرنا وأحاسِيسنا الإِنسَانِية ولا تَكفِي تَعابِيرُ الوَجهِ أو تَحوُر القَسَمَات لِفَهم ما يَختلِج ذواتِ الصُدُور عِندَ أبناءِ مُجتَمع إِلى أبناءِ مُجتَمعٍ آخَر، بَل يَجِب أَن نُحاوِل دَائِماً فَهم ثَقافَةِ الآخَر وبِيئَتِه وعادَاتِه وتَقالِيده قَبلَ أنْ نُطلِق حُكماً عَلى تَصرُفاتِه التِي قَد تَكُون بِبسَاطة نَابِعَة مِن تِلكَ العَوامِل فَما يُميّز إِنسانِيَتنا هُو تَنُوعنا الثقَافِي والأَيديوُلوجِي والتَاريخِي واستَذكِرُ بيتَ قيس بن المُلَوح:
وَجَدتُ الحُبَّ نيراناً تَلَظّى **** قُلوبُ العاشِقينَ لَها وَقُودُ
وأسأل هل تَتطَابَق أحاسِيس مَجنُونِنا الذي يلهجُ الحُب كنَيرانٍ مُتَلظِيّة فِي قَلبِه مَع مَشاعِر سُكَان جَزيرة "نياس" Nias الأَندُونِيسيَة حِينَ يَرونَ الحُب "كابتلاع كُرَةٍ مِن وَبَرِ القِطَة" هذا التَعبِير الذِي لَم يَستَطِع الأنثروبُولجِيُون تَفسِيره؟
من وِجهة نَظرِي الشَخصِية أرى أنَ ذَلِك الوَصف آتٍ مِن مُراقَبة القِطة التِي تَتَعذب بِشكل كَبير لإِخرَاج كُتَلة الشَعر العَالِقة في حَلقِها بينَ الحِين والآخَر والتي تَتَجمَع بِسبَب لَعقِ القِطة لوبَرِها مُنظفةً نَفسَها ثم تَقذِفها خَارِجاً بِحالة أَقرَب إِلى الاختِنَاق وشَقِ الأَنفُس، وَمَنْ يَمتلك قِطة يَستطِيِع أن يُدرِك تَمَامَاً مَا أُشِير إِليه، وكذا هل يتشابه شعور قيس مَعَ سُكان أحد القَبَائِل البِدائِيَة حِين يَصِفُون الغَرام بـِ "القَلب المُشعِر" أي القلب الذي نَبَت عَليه الشَعَر؟ أم أنَّ أحَاسِيسَهُم مُختلفة تَمامَاً وتَأتي مِن واقِع ثَقافتهم وبِيئَتهم، التِي تَختَلِف بِشكلٍ جَذري عَن بِيئَة وثَقَافَة المُلوح قَيس؟
تورونتو ٢٠٢٣
المُهَنّدْ النَاصِرْ
مُرَاجَعَة عِلمِية: إِينَاسْ عَبد العَزِيزْ
تدقيق بلاغي: أ. سَمِير النَاصِرْ
* العَملّس: أحد أسماء الذئب عند العرب.
* تشارلز داروين: صاحب نظرية التطور الشهيرة.
المراجع:
The Emotional lives of others (Aeon) July 2019
Rosaldo-Grief-and-a-Headhunter's-Rage 1984
How Inuit Parents Teach kids to control Their Angers March 2019 NPR
Nature Via Nuture Matt Ridley 2003الطبع عبرَ التطبُع: مات ريدلي