الرموز السينمائية النفسية في فلم الطحالب للمخرج ريمون بطرس

February 20, 2024, 3:30 pm, By Almohannad Alnasser


post image

"وعالالا ولالا ولالا، جن العاصي كرمالا". وإنَّ للعاصي رمزيّتَهُ التاريخية في الحبّ والتّمرد والجنون، لمعاكسته ما اعتادت عليه الأنهار الأخرى منذ الأزل، ورفضهُ أن يروّض حتّى بأنينِ نواعيرهِ، التي تمتدُّ عاليّةً لتسقي أطراف بساتينه باعثةً فيها الحياة، وكأنّها وريد وشريان المدينة الواقعةِ على ضفافه، المدينة التي أراد المخرج الراحل "ريمون بطرس" تخليدها وتخليد نهرها ونواعيرها التي تسيّجها كطوقٍ سحريٍ من مارج من نار، بفيلمٍ لا يقلّ سحراً وأثراً في النفس عن الأثر الذي تتركه فيك أزقتها.

ويستوقفك اسم الفيلم من اللحظة الأولى، فتحاول تأويل المعنى المراد من ذاك العنوان المبتدع: "الطحالب" والذي ينطوي بحدِّ ذاته على رمزيّةٍ سينمائيّةٍ لا أجدُّ لها تفسيراً أفضل من التّعبير عن النّقاء والتّجدد، لما للطّحالب من دورٍ عظيم في توليد الأوكسجين الذي هو عصب الحياة من جهة، ولما لها من دورٍ في تنقية وتجديد الحياة على كوكب الأرض من جهةٍ أخرى، ناهيك عن أنّها أحد أوائل وجوه الحياة على الأرض وتستمد غذائها بشكلٍ ذاتيّ من أشعة الشّمس دون الحاجة إلى من يغذّيها. ولعلَّ ما رآه "ريمون" في مدينة حماة هو ما رآهُ كلَّ من ولدوا في تلك المدينة العجيبة، وهنا أستذكر مقطعاً شعرياً لسمير الناصر يقول فيه:

فحماةُ قرآن وترتيلٌ
وإنجيلٌ وقداس
وأغنية وتغريدٌ
ونيسانٌ ودارُ أبي
وعاصيها على الأزمان ثرثارٌ
وصفصافٌ وإيثارٌ ووحيُ نبي.

لعلَّ ما يدعم طرحي هذا هو بداية الفيلم، والتي يظهر فيها الكادر الأول بطفل صغيرٍ عارٍ لم ينطق بعد، والنّاعورة تحيط به وكأنّها رحمٌ أو ملائكةٌ تخيّم على وجوده. وإن شئت أن أحلّل المشهد من وجهة النّظر النّفسيّة لأستنبط الرّموز المخبّئة خلف كوادره، لقلت: إن عري الطّفل هو ترميزٌ للبراءة من جهةٍ، وللعودة إلى الوجود الأساسيّ أو الفطرة الرئيسيّة قبل العبث بها من المجتمع والتّقاليد والمعتقدات من جهةٍ ثانية، أمّا وجود النّاعورة محيطةً به فهي تعبير عن دورة الحياة في الطّبيعة، تلك الدّورة التي تمرّ بأنينٍ موجعٍ كهدير صوتها الأقرب إلى أنين. وكأنّ العقل الباطن هو الذي يطلب من ذلك الطّفل الذّهاب نحو النّمطيّة الدّورانيّة في سلوكياته، مدمجاً صوت والده مع صوت النّهر والنّاعورة ليطلب منه أن ينطق "بابا أحكي بابا" وكأنّه بذلك ينقل مخاوفه الدّاخليّة إلى ذات مولوده، تلك الذّات التي عاشت رهبة قمع الأفواه، راجياً ألّا يكرر ولده أخطاءه، أو أن تمرّ حياته بذات المخاوف والنزاعات التي يحياها المجتمع أبّاً عن جدّ.

ينطلق الفيلم بعدها نحو المشهد الثّاني لنحلّق فيه مع عازف نايٍ في قاربٍ ينفخ للنّهر نغماً بدون وتر، ويتوسّط الماء ضوءٌ وحيدٌ، ونرى نساءً متّشحاتٍ بالسّواد يحطن بالنهر. ولا أعلم هنا تحديداً إن أراد ريمون الترميز لهنَّ بصفتهنّ الحاميات الصّامتات للنّهر والمدينة بلباسهن الأسود الذي يشبه سواد نواعيرها، أم حُماة العادات والتّقاليد، أم حوريات النّهر اللواتي قضينَ فيه نظراً للقمع الذي تعرضت له المرأة عبر العصور. برأيي: إنّ التّحليل الثّالث هو الأقرب إلى ما أراده المخرج، لاسيّما وأنّنا نرى في مشهدٍ متقدّمٍ من الفيلم جريمة قتلٍ تقع في النّهر، إذ يقوم أخٌ بقتل أخته إغراقاً، وكانت الأخت ترتدي زيّاً مطابقاً لزيِّ النّساء حوله، ونرى النّهر يبتلع جسدها، ثمّ نراها بعد ذلك تجلس في قاربٍ وسط النّهر وكأنّها تعبر نحو الضّفة الأخرى، وهنا مقاربةٌ ما بين نهر العاصي ونهر "ستيكس" Styx في الميثولوجيا الإغريقيّة. وما يدعم كلامي أيضاً، هو المشهد الثاني من الفيلم -التالي لمشهد النّساء المحيطات بكلّ مكانٍ في النّهر- و الذي يظهر فيه رجلٌ يغني: "جن العاصي كرمَالا" ونرى الرّجال يرقصون منتشين بحالة أقرب إلى الطّقوس الصوفيّة، سكارى بهوى اللحن والصّوت والنّهر وهدير النّاعورة، وفي لحظةٍ من توحّدٍ وجوديّ نراهم يتعرّون ويقفزون في النّهر وكأنّهم يتعمّدون من آثامهم ويغتسلون من خطاياهم، بينما صوت الغناء الشعبي مازال مستمراً مع رقصٍ وتلويحٍ بالمناديل البيضاء، في مشهدٍ سورياليّ أقرب إلى الحُلم، يمثل ويختصر واقع وتاريخ المدينة كاملاً.

إذا أردت الحديث عن الأبطال الرّئيسيّين في الفيلم وهم الأخوة الثلاثة "وربما هناك نوعُ من الإضاءة على قصة "الأخوة كرامازوف لديستوفيسكي" نجد أنّ الأخ الأكبر "أبو أسعد" أيمن زيدان هو تمثيل للأنا الأعلى، فهو الرّجل ذو القيم الأخلاقيّة والمبادئ والذي يحاول دائماً أن يكون مثالياً، فيما الأخ الأصغر "غانم" يمثّل ما لدى النّفس الإنسانيّة من أطماعٍ وشرورٍ، ويسرق الأرض الموروثة عن أبيه ليجعل منها مزرعة دجاجٍ، ولمزرعة الدّجاج أيضاً رمزيتها في علم النّفس، فهي تمثّل الجزء اللّاواعي من الغرائز الرّئيسيّة والأساسيّة، والتّدجين بحدّ ذاته هو تعبيرٌ عن التّمرغ في الأطماع الإنسانيّة والانفصال عن القيم المتمثّلة بالأخوة، وهذا ما يبدو جليّاً في الظّهور الأوّل للأخ "غانم" مرتدياً الزيّ الحمويّ الرسميّ "بالجلابية والحزام" (وأعتقد أنّ المخرج تعمّد أن يلبسه الشاروخ في أوّل ظهورٍ له) ولكن في مراحل متقدّمةٍ من الفيلم نلحظ تغيّره وانفصاله التّدريجي عن الأزياء التقليدية وتلك رمزية عن التحوّر والتنصل من العادات كاملةً، إذ يرتدي في النّهاية بذلةً بيضاء تنبئ بموته القريب، فلا نراه بعد ذلك إلا بالكفن، وهذا ما يسمّى في اللّغة السّينمائيّة بـ Foreshadowing، الأخ الثالث في الفيلم والعائد من المغترب فهو يمثل الأنا الإنسانيّة، والتي لا تحرّكها غرائزها ولكن يحرّكها التّوق إلى العدالة والمساواة، تلك العدالة المفقودة تماماً، ويؤكد المخرج هذه الفكرة بتعمّده إبقاء القضاة صامتين أمام جميع القضايا المعروضة عليهم في قصر العدل الذي تدور الكثير من مشاهد الفيلم فيه. أمّا الأخت فقد أتقن المخرج إظهار شخصيتها مظلومةً ومقموعةً، لا أحد يستمع لرأيها رغم أنّها تحاول دائماً أن تصلح بين الأخوة، وأن تتنازل عن حقّها في الميراث في سبيل إنهاء النّزاع الأخويّ، ولكن بلا فائدةٍ حقيقيّةٍ. وهنا يعكس المخرج مرةً أخرى الواقع الاجتماعيّ والإجحاف بحقّ المرأة، وقد طرحَ هذه القضية بشكلٍ واضحٍ في مشهدٍ لسّيدةٍ تحاول تبرئة نفسها من طعن أقاربها لها في شرفها لإخراجها من المنزل وحرمانها من الحقّ في تربية أطفالها، وهنا يظهر القضاة وهم "صمٌ بكمٌ عميٌ فهم لا يرجعون" في دلالةٍ رمزيّةٍ وبذكاءٍ شديدٍ يعكس الواقع السّوريّ في تلك الحقبة، والذي لم يتغير كثيراً حتى بعد مرور أكثر من ربع قرنٍ على إنتاج الفيلم.

أحد المشاهد الذي لا بدَّ لي أن أتوقف عنده: هو مشهد اغتسال بطل الفيلم وحبيبته بمياه النّهر، فبعد أن تعرض على حبيبها مخاوفها من النّهر نتيجة عقدةٍ من الطّفولة تعبّر عن رغبتها في السّباحة والغوص داخل العاصي. يضعنا المخرج أمام مشهدٍ لذكرٍ وأنثى شبه عاريين يغطسان في الماء بطريقة أقرَب إلى التّعميد، ثمّ ينصهران معاً رجلاً وامرأة في عناقٍ يمثّل الخطيئة الأصليّة واندماج الحياة الأولى التي بدأت من الماء. ومن النّاحية النّفسيّة، غالباً ما تشكّل المياه الفيض العاطفيّ في العقل الباطن، والعناق هو الرّغبة الصّادقة في استكشاف العواطف العميقة بين الذّكر والأنثى. أمّا من ناحية فرويدية فالعودة إلى الماء هي العودة إلى الرّحم بسائله السّلويِّ "الإيمونوسي" ويعبّر عن محاولة الاتصال من جديدٍ مع أحاسيس الأمان، فيما العري يعبّر عن الأصالة والنّقاء في المشاعر الحميميّة، وكأنّ كلّاً منهما يحاول أن يملأ جرار عواطفه من مشاعر الآخر في التحامٍ ما بين النّفسين الذّكريّة والأنثويّة.

إحدى اللّقطات المكرّرة في الفيلم والتي حيّرتني كثيراً، هي مشهدٌ لطوفٍ خشبيّ محاطٍ بالعوارض وكأنّه زنزانةٌ، ويحمل عليه أحياناً نساءً وأحياناً أخرى نساءً ورجالاً، من ناحيةٍ سينمائيّةٍ هو تعبيرٌ عن العزلة والانفراديّة والكفاح من أجل الحريّة، ويمكن استخدام رمزيةٍ كتلك في الأفلام من أجل استكشاف التّجربة الشّعوريّة والنّفسيّة عند شخصيات الفيلم، مع تسليط الضّوء على صراعهم الدّاخليّ ورغبتهم في الانعتاق، وبنفس الوقت صعوبة إدراك الوجهة وهم محاطون بالماء من كلّ جانبٍ ودون بوصلة. أمّا من ناحية الرّموز النّفسيّة لذلك المشهد فإنّ الطّوف الذي يبدو كزنزانةٍ يمكن أن يعبّر عن محدوديّة النّفس العالقة والحبيسة داخل الأفكار والسلوكيّات، أمّا النّهر نفسه فهو يعبر عن رحلة اللّاوعي والعواطف نحو اكتشاف ذاتها، فيما الناس على الطوف هم تعبيرٌ رمزيٌّ عن الصّراع والتّوق إلى الحريّة.

نهاية الفيلم تختصر وجهة النّظر الفلسفيّة العميقة عند المخرج، فما إن يخرج البطل من مدينته "حماة" مبتعداً عن نهرها وما إن تتجاوز الحافلة حدودها حتّى يصاب بجلطةٍ قلبيّةٍ وكأنّه طحلبٌ حجبت عنه أشعة الشّمس واستؤصل من أرضه ومكانه ومائه. ولا نسمع سوى نبضات قلبه وأصوات النّاس تقترح حاجته إلى تنفّس اصطناعي، وهنا يأتي دور حبيبته التي تضع فمها على فمه، ونسمع النّبضات تستمر فيما تهيم روحه محلقةً نحو النّاعورة، ليمتزج صوت دقّات قلبه مع أنين تلك النّاعورة في نهايةٍ رمزيةٍ وجميلة، ولا داعي لتفنيدها أو رؤية الرموز السّينمائيّة والنّفسيّة وسأتركها غامضةً كما أراد لها المخرج وعرضةً للتأويل والبحث.

الموسيقى في الفيلم:
إن كان هناك ما يستلزم الوقوف احتراماً فهو الهندسة الصّوتيّة والموسيقى في الفيلم، فقد ظهر جليّاً اهتمام المخرج في المجال الصوتي لاسيّما أنّ الموسيقى كاملةً في الفيلم تمّ وضعها بطريقة طبيعية دون مؤثرات استديوهات. كما لم يحتوِ الفيلم على موسيقى تصويريّة، ممّا جعله بحدّ ذاته تحفةً، واستعاض المخرج عن الموسيقى بالأغاني والأهازيج الشعبيّة من التّراث الحمويّ خاصةً والسوري عامةً، مستخدماً آلاتٍ موسيقيّةً منفردةً كالنّاي والكمان لعزف أغنية "عاللا لا ولا لا لا" لمراتٍ متعدّدةٍ في الفيلم، كان أجملها حين ترافقت مع أنغام آلة الكمان وصوت البطل مع شقيقته حين رقصا معاً، وكانت الأخت خجولة جداً كصوت الآلة الموسيقيّة المرافقة وبسيطة كبساطة اللحن نفسه الذي يتألف من ثمانية مقاييس موسيقية. لذا وباعتقادي فإنّ استخدام الجوّ العام وأصوات النواعير وهديرها، بالإضافة إلى أصوات المياه والنّهر قد أضاف على الفيلم ما يحتاج إليه تماماً من مسحةٍ واقعيّةٍ تمثّل واقعيّة المدينة والمجتمع جاءت الموسيقى البسيطة لتصوير بساطة الحياة هناك.


التعليقات



أضف تعليق
الاسم
البريد الالكتروني
التعليق

© Copyright Maher Sarem 2024

Facebook Twitter LinkedIn instagram tiktok youtube